هل نغير الواقع أوّلا أم نغير الأفكار؟ : بقلم الأستاذ علي مصابحية
هل نغير الواقع أولا أم نغير الأفكار؟ هذا الجدل القديم والجديد له خلفياته التي اشتهرت في تاريخ الفكر الفلسفي بالصراع بين المادية والمثالية. لكن الخلاف تجاوز أبراج الفلسفة العاجية إلى الواقع اليومي.
في ستينيات القرن الماضي سادت في العالم الثالث نظرية التطور الاقتصادي لروستو. ملخص هذه النظرية أن الخروج من التخلف يمر عبر تحقيق تنمية اقتصادية أشبه بقطار سريع يمر عبر خمس محطات (مراحل) ذات تتابع زمني، تمهد كل مرحلة الطريق أوتوماتيكيا للمرحلة التي تليها وصولا إلى الخروج من المجتمع التقليدي وظهور المجتمع الحديث. (يبدو أنه من هنا جاءت التعبيرات الحكومية حول عجلة التنمية وقطار التنمية ). هذه النظرية كما هو واضح تنطلق من المعادلة المادية التبسيطية "غيروا الواقع وسيتغير الإنسان تلقائيا". تحولت هذه النظرية إلى إنجيل الأنظمة في دول العالم الثالث، وفعلا دخلت حكومات الدول النامية في مشاريع طموحة لتطوير البنية التحتية. لكن الذي حصل أثار استغراب الجميع. أنشئت المستشفيات لكن ظل الناس يفضلون الطب الشعبي. وأخرجت الجامعات حاملي الشهادات العليا لكن فيهم من ظل متخلفا ثقافيا ورجعيا اجتماعيا. بنت الدولة المدارس لكن قاوم المجتمع إرسال الفتاة للتعليم وفضل إرسال الشباب للعمل المبكر. وتوسعت المدن لكنها كانت مدنا أشبه بالأرياف.
ورفعت الدول شعارات المواطنة لكن الانتماءات القبلية والعشائرية والطائفية استمرت تحكم علاقات الناس من خلف الستار.
انظروا إلي الدول النفطية الغنية كيف تغير واقعها وتجمد فكرها. وانظروا بتمعن إلى واقع الجاليات العربية والمسلمة في الغرب. فقد تغير واقعها تماما لكن ظلت محتفظة بفكرها المحافظ والقديم حتى انصدمت مع واقعها وانعزلت عنه. تغير الواقع المادي لكن التخلف بقي، وتغيرت البنية التحتية وظلت البنية الفوقية القديمة عصية ومقدسة.
كان خطأ نظريات التنمية التقليدية أنها أهملت الإنسان وعادته. فقد اخترعت الأنظمة تناقضا أبديا بين التنمية والحرية، وقررت أن مصادرة حريات الناس شرط لازم لتحقيق التنمية. بعد ذلك حدثت مراجعات جذرية لنظريات التنمية والتحديث حتى وصلنا إلى نظرية التنمية البشرية المستدامة وملخصها المفيد أن عملية التنمية في أساسها هي تنمية للإنسان وتوسيع لخياراته. أهم مرجع نظري لهذه هو كتاب "التنمية حرية" لامارتيا صن الذي قدم مرافعة محكمة وبيانا لأهمية الحريات والأفكار في تحقيق التنمية.
رأيي الشخصي أن تغيير الواقع وتغيير الإنسان يجب أن يسيرا معا، إلا أن الأولوية هي لتغيير الإنسان وتغيير الأفكار وتزويد الإنسان بالمهارات والحريات اللازمة لتحقيق مستقبله.
 
علي مصابحية
 

 إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي Ambiance FM وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

 

الإذاعة الجهوية الأولى بالمهدية Ambiance FM

إذاعة جمعياتية متخصصة منضوية تحت لواء جمعية قصور الساف للشباب والثقافة و الإعلام، مدعمة من وزارة الشؤون الثقافية في إطار البرنامج الوطني"تونس...مدن الفنون"

المدير العام المؤسس : محمد أمين عبد الواحد

العنوان: دار الثقافة قصور الساف، شارع الحبيب ثامر 5180 قصور الساف

الهاتف : 52911306
الفاكس :73665292