الفلسفة وادارة الأزمات: أية عوالم ممكنة زمن الكورونا؟ بقلم الأستاذ علي البهلول
- الجمعة 01 ماي 2020 22:54
اذا كانت “الأزمة” كما حلّلها مؤسس الفلسفة الفينومنولوجية إدموند هوسرل في كتابه الموسوم ﺑ “أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية” حمالة أوجه ولها اكثر من دلالة فانها تعني في ما يمكن أن تعنيه ذلك الوصف الذي يتصيّر بوصفه فعل فلسفة وهو الكاشف عن نزعة عقلانية ضالة تعاني من التيه،أي أزمة تنشبك فيها المعاني الإنسانية التي ظلت تتخبط في دائرة بربرية أو هي الأزمة التي اتخذت طابعا سياسيا وأخلاقيا ضمن سياق تاريخي إثر صعود النظم الشمولية كالستالينية والفاشية والنازية، التي سخرّت المعارفَ العلمية والتكنولوجية قصد تحقيق الهيمنة والتحكم في الأفراد و الشعوب وما نجم عن ذلك من تهديد الإنسانية برمتها بالفناء كالحروب المدمرة للجنس البشري والصراعات الإيديولوجية(1) فهذه الازمة هي التي اقترح هوسرل حلا للخلاص منها عبر “أفولُ أوربا في اغترابها عن المعنى العقلي لحياتها والسقوط في عداء الروح وفي البربرية، أو انبعاث أوربا انطلاقا من روح الفلسفة بفضل بطولية للعقل تتخطى النزعة الطبيعية نهائيا (2).
فأن تفكر الفلسفة في الازمة وفي ادارة الأزمات ليس بالشيء المستغرب او هو بالفعل الهجين عنها باعتبار ان الفلسفة منذ ولادتها حاولت العمل على الـتأسيس لفعل اللوغوس اي فعل العقل وقوة الفعل من خلال الفكر واعطاء صلاحية كبرى للفيلسوف على التدبير وعلى نحت المفاهيم وعلى النظر في النظر بعين مغايرة من اجل البحث عن المنكسف في المنكشف ولمزيد تمتين العلاقة بين الإنسان وفكره من خلال مواصلة التجرؤ على استخدام العقل والنظر الى ما يعيشه هذا الإنسان من ازمات مفخخة قد تحول بينه وبين التفكير والمعيش اليومي على غرار ازمة “الكورونا “التي شهدتها المئات من الدول العربية والأوروبية منذ مدة قصيرة والتي ظهرت أواخر سنة 2019 في مدينة ووهان الصينية لتواصل انتشارها أكثر من الورم الخبيث باعتبارها فصيلة كبيرة من الفيروسات التي قد تسبب المرض للحيوان وللإنسان حيث يسبب فيروس كورونا المُكتشف مؤخراً مرض فيروس كورونا كوفيد-19.
واذا عدنا الى تاريخ ظهور هذا الوباء فتشير المعطيات أن اول إصابة بالفيروس كانت سنة 1937م، في صفوف الطيور مما أدى إلى نفوق المئات منها، ثمّ بدأت الأعراض تظهر على أنواع أخرى من الحيوانات مثل المواشي والأبقار، أما فيما يتعلق بأول حالة من حالات الإصابة البشرية، فسجلت أول إصابة سنة 2012م على يد طبيب مصري مقيم في المملكة السعودية، وهو الطبيب محمد علي زكريا، ووصلت عدد الحالات التي تم تسجيلها حتى نهاية سنة 2015 إلى 1250 حالة تماثلت 685 حالة منها للشفاء، وتوفت535 حالة، وبقيت 30 حالة تحت العلاج ،ومع نهاية 2019 ودخول سنة 2020 ظهر نوع آخر من الكورونا عُرف بفيروس ووهان أو فيروس الكورونا الجديد 2019 وكان ذلك في الصين
وباعتبار أن “الفلاسفة لا ينبتون من الأرض كالفطر، بل هم ثمرة عصرهم حسب ماركس”، معنى ذلك أن الظروف والأحداث التاريخية التي يعيشها الفلاسفة هي التي تصنع تصوراتهم وافكارهم وتصنع معيشهم اليومي هو ما يجعل الفلسفة اليوم تعيد النظر في مسألة ازمة وباء الكورونا باعتبارها أزمة عالمية شبيهة بالكوليرا او الطاعون مثلما صوّرها ذلك سابقا الكاتب والمفكر ألبير كامو في روايته “الطاعون “التي صدرت سنة 1947وتحصل بها على جائزة نوبل في الأدب والتي صور من خلالها عبر شخصيات نسجها من الخيال ومن الواقع تفشي الطاعون بمدينة وهران الجزائرية وصولا الى اغلاق المدينة من أبوابها ومنافذها وعزلها عن العالم الخارجي ليبقى الناس في صراع بين الموت والحياة وبين القضاء والقدر،وكأن كامو بعد نصف قرن من نشره لروايته كان قد استبق الأحداث لتتطابق مع ما يعيشه العالم اليوم نتيجة تفشي الكورونا وما خلقته من هلع وفوضى ومن سقوط للأسهم داخل أسواق البنوك والبورصات ومن إغلاق للشركات ومن حظر صحي لعشرات الآلاف من الناس ومن فراق لأحبة نتيجة وباء مفاجئ مخاتل يتسلل بين ثنايا الأحياء والمدن داخلا البيوت ليفتك بالكبير والصغير .
فحدث “الكورونا “جعلنا اليوم وجها لوجه أمام البحث عن طريقة في كيفية التعامل مع الموت وجها لوجه وبكل شجاعة باعتبار ان الانسان هو الكائن الموجود حسب هيدغير يصبح منذ أن يعي نفسه “مرشحاً للموت وتبدأ حياته تنمو في ظل حداده وهذا ما يجعل الكائن البشري معدّاً للموت غائصاً في لجة اليأس يبحث عن معنى الحياة التي تصب في فجوة الموت المرعبة والمعتمة”
ففكرة الحياة و الموت هي الفكرة التي تزامنت مع الخلق وطبعت في كل الأديان والرسائل السماوية وصولا الى كتب الفلاسفة والأدباء باعتبار ان التعامل مع الموت هو تعامل يومي وفي كل لحظة عين قد يأتي فجأة وهو ما أبرزه القران “أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة”(3).
فمثل هذا القول نجده في العهد القديم أي في نظر الزرادشتية والتي نظرت الى الموت باعتباره أشد الخفايا رهبة، وحتميته لا يمكن الفرار منها، “لأن (إستواد) إله الموت يعثر على كل إنسان أياً كان مقره ولا يستطيع أحد الإفلات منه، ولن ينجو أحد من الموت لأن (إستواد) يأتي متخفيا إلى كل إنسان، وهو لا يعظم شخصاً ولا يقبل الثناء ولا الرشوة، يهلك الناس بلا رحمة (4).
فأزمة الكورونا اليوم هي أزمة معممة أوجدت لنفسها أرضية خصبة داخل الفضاء العمومي العربي والأوروبي ليتحول الشغل الشاغل اليوم الى إيجاد السبل الكفيلة من اجل التخلص من هذا الوباء ومن اجل مقاومة الموت الناجم عن الفيروس المستجد الذي بدأ يترصد بالعالم….
فالفلسفة و في اطار دورها التأويلي يمكنها أن تتوجه نحو العالم المعيش و أن تحين علاقتها مع الكلية و هذا ما سيجعلها تساهم في تحريك الألية الثابتة المرتبطة بالأداتية المعرفية و الممارسة الأخلاقية و التعبيرية و الجمالية (5) ، فالفلسفة ” تبقى كما العلوم موجهة تجاه مسائل الحقيقة لكنها على خلاف العلوم تقيم علاقة داخلية مع الحق و الأخلاق و الفن و هي تتفحص انطلاقا من منظورها الخاص مسائل المعيار و التقييم وبانخراطها في مسائل العدالة و الذوق و التجارب الجمالية تحتفظ لنفسها بالقدرة الفريدة على الانتقال من خطاب لأخر(6)، وهي نقد للتصور الذي كوّنه التراث الفلسفي حول نفسه إنها أصبحت تؤكد على ضرورة نقد عقلاني(7).
حيث يقول هابرماس في كتابه الأخلاق و التواصل ” حتى و لو تخلت الفلسفة عن الأدوار الإشكالية المتمثلة في الحكم على الثقافة في مجملها فإنه يمكنها بل و يتعين عليها مع ذلك الحفاظ على الضرورة العقلانية باستثمار الوظائف الأكثر تواضعا التى تسمح بتعيين و صيانة المواقع التى تشغلها النظريات الطموحة والتي تؤوّل ما يقال (8).
فحسب هابرماس فقد آن الأوان للبشرية أن تُطلّق العقل المفرد العاجز لتتحول إلى العقل المزدوج و الحقيقة المتوافق بشأنها القائمة على سلطة الحوار و التفاهم المبني على الإعتراف المتبادل ،ولقد لاحظ كانط بأن “الوعي بالذات لايمكنه خلق الأنا الثابت والمستمر وسط هذا المد من المظاهر الداخلية”(9)
فالإنسان يتعرف على ذاته بالآخر ومن ذاته لأنه لا يستقبل إحساسه بكونه مكتملا إلاّ لكونه يستقبل ذات الآخرين كذلك (10) ،حيث نجد أنفسنا مدفوعين بالفعل إلى وجوب الخروج من فلسفة الذات من خلال مخرج آخر(11).
ان الحل الذي يكمن هنا هو ان تاخذ الفلسفة مكانها وأن تنظر الى هذه المسألة التي باتت محل حدث وحديث ومحل هذيان في بعض الأحيان وخاصة أن العالم عرف عدة رجات كبرى فاقت الكورونا والطاعون والأعاصير والزلازل والتسونامي والتي يطلق عليها “بالكارثة” أو الطامة الكبرى والتي لا يمكن حتى لعدسة الالة الفوتوغرافية التقاطها والتي وان جاءت حتى تطم على كلّ هائلة من الأمور، فتغمر ما سواها بعظيم هولها.
فالتأسيس لفعل المقاومة من اجل حياة خالية من الوباء ومن كل أشكال الألم اليومي على الإنسان والإنسانية، ليست بحاجة فقط إلى عملية تعقيم كلية والى الالتزام بالبقاء في الحجر الصحي ومتابعة الطبيب فقط بل هي بحاجة الى عملية مراجعة جذرية لمعنى الحياة الإنسانية ولمعنى التأسيس لفلسفة قوامها ايتيقا العيش المشترك او العيش معا كما عبر عنها فتحي التريكي لأن ما بحاجة اليه الإنسانية اليوم أوسع من التصدي لهذا الحدث العابر والعودة الى المربع المعيشي الأول الذي ينظر الى الأخر على أنه “الجحيم ” فعالمنا بحاجة ماسة الى التأسيس لأفق كوني إنساني تلتقي فيه كل الأفكار بعيدا عن الإيديولوجيات المقيتة وعن السفسطة الأليمة ترسيخا للشعار الكانطي “الأرض وطن للجميع” خاصة وإذا علمنا ان الخلاص يعتمد على” الصدع الصغير في الكارثة المستمرة” مثلما عبر عنه فالتر بنيامين ” .
علي البهلول
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي Ambiance FM وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.
الهوامش:
1-كمال بومنير،“أزمة العلوم ومفارقات الحداثة بين الفلسفة الفينومينولوجية والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت”،موقع كوة نشر يتاريخ 12 يوليو 2018
2-إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية و الفنومنولوجيا الترنسندنتالية. ترجمة إسماعيل مصدق، بيروت، المنظمة العربية للترجمة 2008، ص 559
3-“سورة الجمعة الاية 8
4- العهد القديم: سفر أيوب إصحاح 21- 26
5 – Habermas J, Morale et communication: conscience morale et activité communicationnelle,Tr ;Flammarion, p39
6-نفس المرجع 86
7-J Habermas, profils philosophiques et politiques ,p43.
8- -HabermasJ, Morale et communication, Tr ; Flammarion, p24.
9- أرنت حنّة،حياة العقل:التفكير، ترجمة:نادرة السنوسي،ابن النديم للنشر،ط1 ،بيروت ج1،2017،ص59
10-حسن مصدق ،يورغن هابرماس ، مدرسة فرانكفورت ،النظرية النقدية التواصلية ،المركز الثقافي العربي ،،الدار البيضاء ـطبعة 1 2005،ص135
11-نور الدين افاية ، الحداثة و التواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، افريقيا الشرق،ط2 ،.ص67 .