إلى أين يا تونس؟ .. بقلم الأستاذ وسام بوزيد
- الخميس 14 ماي 2020 14:07
تقاس مناعة الاوطان بإستقلاليتها الإقتصادية و الخيارات الإقتصادية المعتمدة بعيدا عن الإقتراض الخارجي و الرضوخ لشروط الدائنين ، غير أن الدولة التونسية رفعت السقت عالي لسياسة الإقتراض الخارجي لذلك يعتبر ملف الدين العام للدولة و خاصة الديون الخارجية أثقل ملف و الأكثر غموض و تستّرا و أبعد ما يكون عن كشفه و مصارحة الشعب به ،فكل الحكومات لجأت للإستدانة بصفة متصاعدة لتمويل الميزانية و هذه الديون لم ينتج عنها خلق للثروة أو التنمية أو إمتصاص البطالة( 15.3% ) ويتضح تأثير سوء التصرف في إستخدام القروض بإنعكاسه سلبا على النمو مع وضع إقتصادي و إجتماعي خطير و هش تتردى فيه تونس اليوم .لذلك فهو نتيجة حتمية لخيارات و برامج و إتفاقيات أقرتها الحكومات المتعاقبة ما بعد جانفي 2011 و هذا الوضع ماض في التدهور مع إرتفاع الدين الخارجي ليصل لحوالي 75 % من الناتج المحلي و متوقع بلوغه 89% سنة 2020 (كتلة الديون الخارجية متوسطة و بعيدة المدى قاربت 81 مليار دينار ) و إرتفاع متواتر و متزايد للعجز التجاري ليصل ل31 مليار دينار مقارنة بميزانية الدولة 41 مليار دينار تسدد بالعملة الأجنبية و إرتفاع متصاعد لنسبتي البطالة 35% في بعض الجهات) و نسبة الفقر 15,3% و الفقر المدقع 2.3% مع إرتفاع لنسبة التضخم لحدود 7 % ،كل هذه المؤشرات تزيد الوضع التونسي قتامة و خوف على مصير الدولة و إستقلاليتها جرّاء الخيارات الإقتصادية و السياسات المالية المعتمدة لتعبئة الموارد.
فحتى الحكومة الحالية برغم الفرصة الإلهية بأن تطالب بإلغاء ديونها نتيجة جائحة كورونا و الأزمة الصحية و الإقتصادية و الإجتماعية مما يساعدها على الإحتفاظ ب6.6 مليار دينار إلاّ أنها إعتمدت نفس تمشي السلف الطالح بلجوئها إلى مزيد إغراق البلاد في مديونية عديمة بحيث أن سلسة من القروض تم إبرامها في حيز زمني وجيز و تم تسويقها على أساس الضرفية الطارئة المرتبطة بفايروس كورونا فبلغت مجمل هذه التمويلات و القروض 6.5مليار دولار موزعة(746مليون دينار من صندوق النقد الدولي ، قرض من الإتحاد الأوروبي بقيمة 850 مليون أورو و آخر من البنك الإسلامي للتنمية بقيمة 809 مليون أورو ،إلى جانب القرض الإيطالي بقيمة 158 مليون دينار و الولايات المتحدة بقيمة 72 مليون دينار و البنك العالمي 60 مليون دينار و البنك الإفريقي للتنمية بقيمة 315 مليون دينار و 428 مليون دينار من البنك الأوروبي للإنشاء و الإعمار لفائدة الشركة التونسية للكهرباء و الغاز ) كل هذه المبالغ ترسخ معضلة المديونية المفرطة في تونس و إستسهال كل الحكومات المتعاقبة اللجوء للتداين الخارجي المشروط و المكبّل لإستقلالية القرار الوطني برغم وجود عدّة بدائل غير أن كل حكومات ما بعد الثورة لجأت للحلول السهلة في تعبئة الموارد المالية للدولة برغم تكلفتها الباهضة و الثقيلة على الميزانية نتيجة إنحدار سعر صرف الدينار أمام العملتين الرئسيتين الأورو و الدولار من ما ساهم في تضاعف حجم القروض و أيضا تراجع الضمانات المقدمة من طرف الفاعلين الدوليين وتدهورالترقيم السيادي للدولة التونسية الذي إنعكس على إرتفاع نسبة الفائدة عاليا عند الإقتراض و بالتالي إرتفاع خدمة الدين 11,7مليار دينار في سنة 2020 .
كنا نتمنى ان تستخلص حكومة الفخفاخ (حكومة الخط الثوري) العبرة من الحكومات السابقة التي أخفقت في تسجيل نسبة نمو هامة لتحقيق التنمية و التشغيل بسبب ضعف أدائها الإقتصادي و إختلال توازناتها،لكنها عمقت أزمة البلاد و زادت من مشاكلها و لجأت لمزيد الإقتراض الخارجي بدون خطط صرف لخلق الثروة و المردودية في إدمان غير مفهوم على القروض و الحلول السهلة .
كان لا بد على الحكومة أن تسعى لتغيير الخيارات الإقتصادية كخطوة في طريق الإستقلالية الإقتصادية لإعادة الإعتبار لدور الدولة في الإقتصاد (الدور الإجتماعي و الإقتصادي) كخلاصة من أزمة كورونا و التخلي عن قانون الشراكة بين القطاع العام و الخاص(قانون عدد49 لسنة2015) أسوة بعديد الدول(ألمانيا و فرنسا) وبإسترجاع سيادة الدولة على البنك المركزي (بريطانيا جمدت قانون إستقلالية البنك البريطاني)و وضع حدّ لإستقلالية ملغومة و مهينة و مفروضه لأهم مؤسسة من مؤسسات الدولة(القانون عدد35 لسنة 2016) و تجريدها قصرا و غصبا من إمكانية التمويل الذاتي و ضخ السيولة اللازمة لخزينة الدولة بنسب فائدة منخفظة بدل الرضوخ لشروط المانحين و على رأسهم صندوق النقد الدولي لكنها تهدر فرصة الدولة التونسية في إسترجاع سيادتها على بنكها المركزي ليتمكن من تمويلها بدلا من الإقتراض.
ثم إن السياسة النقدية و المالية الآنية للبنك المركزي و للقطاع البنكي بتونس فاشلة مع غياب تام لتمويل الإقتصاد التونسي لدعمه إستثماريا و خلق الثروة والتشغيل بدل الركوده الحاد فتونس نتيجة فائدة مديرية هي الأعلى ، لذلك تعاني تونس صلابة مالية هشّة على المستوى الدولي فهي تحتل المركز 60 من أصل 65 في الصلابة المالية تراجع تراجيدي بالنسبة لدولة تم تصنيفها في عام 2008 حسب تقرير دافوس الثاني في العالم من حيث التحكم في وضع ميزانيتها والذي تم النظر فيه أيضًا في عام 2010 بين الدول التي لديها توازن قوي للمدفوعات الخارجية إلى حد أن يطلب صندوق النقد الدولي منها المشاركة في مائدة مستديرة من أجل تمويل برنامج التكيف الهيكلي لصالح أحد أعضائه وهو اوكرانيا ، فالوضعية كارثية إن لم تستفد الحكومة من جائحة كورونا لمراجع كل القصور و الإخلالات في النظام الإقتصادي و الإجتماعي و المنوال التنموي و السياسات المالية بإدمان التداين .
كان مطلوب من حكومة النفس الثوري إستغلال ازمة كورنا و المبادرة التشريعية بتقديم قوانين جزرية لضبط إيقاع الإقتصاد و محاصرة السوق السوداء و المهربين و الإقتصاد الموازي و القضاء على التعاملات المشبوهة و أيضا لمراجعة عديد القوانين الخطيرة والهدامة للدولة وسيادتها و إستقلاليتها الإقتصادية و السياسية و إبطال العمل بها و التي تم تمريرها تحت الإملاءات و الترضيات و خاصة منها ترسانة القوانين الملغومة و المنقحة في حكومة يوسف الشاهد(قانون المواصفات الصحية و الصحة النباتية، القانون الأفقي للإستثمار و تحسين مناخ الأعمال عدد47 لسنة 2019 أو ما يعرف بقانون تحسين مناخ الأعمال،قانون الإستثمار و غيرها من القوانين ) و تعليق إرتباط إصلاح التعليم و القضاء و الإدارة بالتعليمات الأجنبية و لكنها حافظت على سياسة التدحرج إلى الهاوية ليصبح إعلان إفلاس الدولة التونسية أمر واقع مع تأجيل التنفيذ لحزمة القوانين التي قدت على المقاس لفائدة الأجنبي لمزيد حلب الدولة.
أن تبقى الخيارات الإقتصادية و السياسة النقدية و المالية للبلاد مرهونة بدول و مؤسسات بعينها فهذا مخزي بدولة ذات سيادة لإحتكام القرار السيادي بها للإتحاد الأوروبي او أمريكا أو قطر أو تركيا فذلك عار .
ثم إن غياب الشفافية بشأن القضايا الإقتصادية الحرجة كالدين العام (داخلي و خارجي) و البطالة و الفقر كلها حواجز للإنتقال الإقتصادي المترتب عن ازمة كورونا.فالإستثمار في الشفافية المالية حول الدين العام و الوضعية الإقتصادية و اوجه صرف القروض يكسر حلقة إنعدام الثقة و غياب التهديد بسحب الثقة من الحكومة .لذلك فالإفتقار للشفافية يعيق البيانات و التحليلات الموثوقة في القدرة على تحمل عبئ الديون و القروض و القدرة على السداد خاصة مع الغموض حول أوجه التصرف في الكم الهائل من مبالغ الهبات و القروض التي تحصلت عليها الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة .
لقد تجاهلت الحكومة التونسية كل الحراك العالمي لإستغلال أزمة كورونا والأزمة النفطية، فهي إلى اللحظة لم تستفد من أزمة كورونا إلاّ بنهب أجرة الموظفين غصبا على إرادتهم و اهملت الإستفادة من الإنزلاق الغير مسبوق لأسعار النفط بوضع إستراتجية تكثيف خيارات الشراء اللاحقة، من اجل خلق مخزوق إحتياطي إضافي يستجيب لحاجياتها بمعنى أن عليها القيام بخيارات الشراء بأجل و محاولة مراجعة جميع عقود الإنتاج النفطي و الطاقي مع تثبيت سعر المحروقات على المستهلك لتحقق تقليصا من عجز الرصيد الأولى لتراكم مديونية ميزانيتها اللاحقة بما يناهز الثلث، فالتقليص في عجز الميزانيات اللاحقة سوف يقلص بدوره حجم الدين الخارجي و بالتالي التخفيض في الدين السيادي الخارجي لحدود الثلث و بالتالي التخلص التدريجي من التركة الثقيلة لكتلة الدين الخارجي . غير أنهم أبعد ما يكون على هكذا تخطيط و الحوكمة الإستشرافية و الإستفاده من الأزمات لانهم لا يملكون سيادة القرار و إستقلاليته لخضوعهم للإملاءات الخارجية .
يا سادتي زمن ما بعد كورونا هو زمن إحداث قطيعه مع المنوال التنموي القديم و ولادة منوال جديد بمصطلحات بكر و تصوّرات و مناهج تعطي أهمية للقطاعات الحيوية كالصحة و التعليم و الفلاحة ضمن بسط دور الدولة و إسترجاع سيادتها المهتوكة عبر القروض المجحفة باللجوء لخيار القطاع الثالث أو ما يعرف بالإقتصاد الإجتماعي التضامني خاصة و أن النهوض به و تطويره يعتبر مصلحة وطنية و ضرورة إقتصادية في هذه اللحظة التاريخية الفارقة التي تنشد فيها تونس الخروج من أزمة الديون .
و قبل ذلك لا بد من مصارحة الشعب بوضعية الدين العام للدولة التونسية بعيد عن كل المناكفات السياسية و أهمية حسن التصرف و إحكام إستغلال القروض التي أبرمت أخيرا بدفعها نحو الإستثمار العمومي بالبنية التحتية للإقتصاد عبر مشاريع تنموية لخلق الإنتاجية .
إن كل فشل أو إخفاق يعقب أزمة كورونا في الحدّ من مظاهر اللاعدالة الإجتماعية و إتساع الهوّة بين الطبقات بإرساء الإنتقال الإقتصادي و الإجتماعي و تغيير المنوال التنموي الحالي و السياسات الحكومية الفاشلة في اللجوء للإقتراض الداخلي و خاصة الخارجي مع الإرتفاع الإنتحاري لكتلة الدين العام هو ضرب لمناعة الإستقلالية الإقتصادية و السيادية و السياسية وإعدام للدولة المدنية و الوطنية ذات السيادة ،عبر بيع الدولة و تحول مواطنيها لخدم بدل أن يكونوا أسياد في وطنهم .
وسام بوزيد
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي Ambiance FM وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.